يحمل حث وتساؤل وزير الداخلية، على هامش لقائه يوم 16 يناير 2016 مع المركزيات النقابية، عن مدى تأطيرهذه الأخيرة، وإمكانية دخولها على خط احتجاجات الأساتذة المتدربين، بين ثناياه مجموعة من الحقائق، بالتزامن مع ارتفاع حدة التوترات والحركات الاحتجاجية بالمغرب، في العديد من المدن والمجالات خارج أي هيئة مهيكلة سواء حزبية، نقابية، جمعوية أو أي منظمة معترف بها كإطار يمتلك الشرعية القانونية، مما يحيل إلى الأزمة الخانقة التي تعرفها الدولة مع البعض من محيطها، خصوصا ما يمكن تسميتهم بقنوات أو مؤسسات الوساطة السياسية والإجتماعية.
فماهي بواعث هذه " المُساءلة " المغلفة بالتّساؤل؟ لماذا فشلت هذه الإطارات في استقطاب واحتواء الحركات الاحتجاجية ككل، باعتبارها رأسمال يرسخ عمقها الجماهيري، وورقة ضغط في مواجهة السلطة السياسية؟ على ضوء هذه الدعوة هل أدركت الدولة، خطورة انحسار وضمور المؤسسات الوسيطة في احتواء وتأطير المواطنين؟
تنبع أهمية مؤسسات التأطير والوساطة السياسية والاجتماعية، التي تجسدها الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني والإعلام، في ترسيخ ثقافة الحوار والتغيير في إطار استمرارية الدولة والمؤسسات الرسمية والرمزية، الشيء الذي يضمن حقن التوترات والأزمات، وتنقية الحوار والنقاش في الفضاء العام بين السلطة والمجتمع، ومأسسة الصراع بين الفرقاء والقوى الحية، وإدخاله إلى أروقة المؤسسات عوض أن يبقى الإحتكام للشارع ومنطق الصراع هو الفيصل. هذه الآلية تحول دون الإحتكاك والاصطدام المباشر بين السلطة والدولة عموما والشعب، بحيث تلعب هذه التقنية دور الحاجز الوقائي وصمام الأمان وكذا الوسيط بين هؤلاء الفرقاء. كما نظّر لذلك "ديفيد إيستون " ضمن تحليله النسقي للنظم السياسية.
1- الدولة، الأحزاب - النقابات – النخب المدنية: من الصراع إلى الإحتواء
موقف وزير الداخلية هذا، كونه صادر عن جهة يحضر لديها الهاجس الأمني، فهو يعيد إلى الأذهان تاريخ الصراع الطويل بين المركزيات النقابية والأحزاب، التي تسمى "وطنية وجماهيرية" من جهة، والمخزن / الدولة من جهة أخرى عشية الإستقلال إلى اليوم وإن بشكل وصيغ أخف، لكن تبقى سنوات الجمر شاهدة على أقصى درجات لهيب هذا الاشتباك؛ عبر قمع مناضلي هذه الهيئات والتضييق عليهم، والحظر العملي الذي طال هذه الأحزاب والنقابات، وتلغيمها من خلال إذكاء الصراعات والنعرات الداخلية، مصحوبة بحملات دعائية تُشيطِن أوتستبلد هذه التنظيمات ونسج إشاعات تُسفِّه أو تنفر... من التعاطي معها؛ ترسخت هذه التصورات بفعل تكرارها في المخيال الشعبي لدى عامة الشعب؛ بالتزامن مع ذلك تمييع التعددية عبر خلق المخزن لكيانات مدجنة، وُظِّف الريع والامتيازات كإغراء لاستقطاب زعامتها بالتوازي مع ربح المعارك الانتخابية، للحد من التسييس الذي يؤدي لبروز ثقافة سياسية تنمي مطالب الحريات و التداول السلمي على السلطة والعدالة الإجتماعية والتوزيع العادل لثروات.
بهذا استطاع المخزن أن يضعف كل قوة احتجاجية أو تأطيرية أو حتى وسيطة. فأصبح المشهد معقدا ومركبا، المجتمع يخاف الدولة والدولة حذرة من المجتمع مما يعني فقدان الثقة بين الطرفين.
أنتج هذا المشهد بؤسا سياسيا ونقابيا ومجتمعيا، تجلى في غياب الديمقراطية الداخلية والبيروقراطية المركزية والمحلية داخل معظم هذه الهيئات، أضفى حالة من الجمود والانغلاق على هذه الكيانات، وسيطرة بعض اللوبيات إختطفت العمل السياسي والنقابي والمدني، تشتغل بالتعليمات بشكل يتماهي مع السلطة؛ بالتزامن مع ذلك يتم وأد أي حركة تصحيحية جادة عبر تهم التآمر والتخوين الجاهزة، إنعكس كل ذلك في تواجد تنظيمات مستهلكة مفصولة عن هموم ومطالب وانشغالات المواطنين، وبالتالي تراجع مهول في تعبئة وتأطير الجماهير، تجلى كل ذلك في ضعف حجم المشاركة السياسية والعزوف الملحوظ في المواعيد الانتخابية، مما يطرح مسألة مشروعية المؤسسات المنبثقة عن هذه الإستشارات "الشعبية"، بما يعنيه ذلك من توسيع قاعدة الأغلبية الصامتة اللامبالية بالشأن العام؛ عمق من استفحال هذا الوضع، غياب معارضة حقيقية فعالة تمتلك المشروع والبرنامج البديل لاحتواء أي حراك؛ ينسحب ذلك أيضا على جل النخب السياسية، التي فقدت دورها وموقعها الاستراتيجي في الحياة السياسية، لصالح فاعلين آخرين.
فَـفقدان الثقة في القوى التقليدية وفي الخطاب السياسي وحتى الديني المؤدلج، وتآكل المؤسسات، الذي أنتجته ظروف موضوعية متعلقة ببنية السلطة في المغرب، وأخرى ذاتية متعلقة بمؤسسات الوساطة الحالية، والتي تحمل داخلها أسباب إفلاسها كنتيجة وسبب لعزلتها المجتمعية، انسحب هذا أيضا على الفعل المدني الوليد الذي لا يخرج عن كونه في أغلبه، يكتسي طابع محلي وأن أنشطته ارتجالية وضيقة، استمراريته مرهونة بالتمويل المقدم لمشاريعه من طرف السلطة، الشيء الذي أبعده عن الاستقلالية والحيادية المطلوبة، ناهيك عن أنه يُسيّر من قبل "نخب" أغلبها لا تمتلك المؤهل المعرفي والاكاديمي ولا الكفاءة الميدانية، لترقى إلى مواصفات المجتمع المدني، القادر على تنمية الحس المدني والسياسي للمواطن، وترسيخ دور المؤسسات الوسيطة للتأطير والتوجيه ولتدبير الاختلاف.
حسب العديد من الملاحظين، أزّم من حدة الاحتقان الشعبي، رغم تراكمه عبر سنين طويلة، التعاطي الأحادي لرئيس الحكومة الحالي مع القضايا المرتبطة بالمعيش اليومي للمواطن، عبر نهجه سياسة الاستفراد بجميع الملفات ذات الطابع الاجتماعي، دون الاخذ بعين الاعتبار ملتمسات الفرقاء والقوى الحية والتوازنات الاجتماعية، بعيدا عن أي مقاربة تشاركية حقيقية، من خلال الاستقواء بالأغلبية العددية ونهج صراع الارادات مع المناوئين لطروحاته؛ عمقت هذه الممارسات (التي يراها الكثيرون غير شعبية)، من خيبة الامل لدى الشارع، كرس هذا الطرح، ضبابية وتردد الحكومة في التعاطي مع قضايا الكبرى التي وعدت بمحاربتها: الفساد واقتصاد الريع، ولعل النقاش العمومي الدائر حول أجور الوزراء والبرلمانيين يؤكد هذا المعطى، كاختبار حقيقي لمدى مصداقية هذه الحكومة للحسم مع هذه الظاهرة (الريع). فتراجع الدولة الراعية - بالخصوص في ولاية هذه الحكومة- التي تكفل الحد الأدنى لمعيشة المواطن البسيط، فاقم الموت البطيء للسياسة وللأحزاب والنقابات وباقي الهيئات، وأفرغ هذه الاخيرة من محتواها الوظيفي داخل نسق النظام السياسي.
2- المآلات: تمظهرات الفجوة بين المجتمع وهيئات الوساطة السياسية والإجتماعية :
إنها حالة من الإفلاس والإنسداد، أصبحت من خلالها النقابات والاحزاب والهيئات المدنية خارج معادلات الصراع، الشيء الذي أدخل الدولة في مواجهة مباشرة مع حشود المطالب الشعبية، أفرز فعاليات وأشكال تكتل جديدة، أحيانا موازية أو بديلة لهيئات تدبير التوترات والحركات الاحتجاجية بالمغرب، وهروب وقطيعة شبه جماعية مع مؤسسات الوساطة الاجتماعية والسياسية التقليدية، وتآكل حتى آليات الضبط الاجتماعي. برز ذلك من خلال تشكيل تكتلات تسمى: "لجان" ، "مجموعات"، "تنسيقيات" و"ائتلافات"... خارج تلك الاطارات -الفاقدة للمصداقية والثقة والنجاعة- من طرف أغلب المواطنين، والأخطر من كل ذلك، نفور وكفر شرائح واعية وذات تكوين معرفي وأكاديمي عالي بهذه الهيئات الرسمية والتعبير عن ذاتها من خلال هذه البدائل الجديدة بما يعنيه ذلك من أزمة وظيفية وبنيوية مؤسساتية؛ بالتزامن مع ارتفاع مظاهرالاحتجاج والغضب الشعبي بالفضاءات العامة، الشيء الذي أصبح يهدد بشكل مباشر السلم والأمن الاجتماعي والاقتصادي، بل وحتى السياسي.
ما يدلل على ذلك في الواقع على سبيل المثال لا الحصر: احتجاجات الأساتذة المتدربين؛ مسيرات المعطلين حملة الشواهد، المواجهات العنيفة والمسلحة بين الفصائل الطلابية في المواقع الجامعية، إضرابات الطلبة الأطباء وكذا الممرضين المعطلين، مسيرات ساكنة العديد من المدن احتجاجا على نقص او غياب خدمة ما مثلا (ساكنة مدينة طنجة احتجاجا على ارتفاع فواتير الماء والكهرباء من طرف شركة التدبير المفوض أمانديس)، ظاهرة شغب الجمهور ببعض ملاعب كرة القدم، ارتفاع مظاهر ما يمكن تسميته "بالعدالة الخاصة الفورية خارج إطار القانون" من طرف جموع المواطنين من قبيل الاعتداء على (فتاتي انزكان – شاذ فاس – لص السوق الأسبوعي بإقليم ميدلت...) والحركتين الاكثر زخما وجماهيرية فعاليات ومسيرات حركة 20 فبراير في وقت سابق، حراك ودينامية الحركة الأمازيغية.
مع الإقرار المسبق باختلاف السياقات السياسية والاجتماعية لكل هذه الأطياف والحساسيات، ودون الدخول في حيثيات كل حركة على حدة وديناميتها واستمراريتها، - لان هذه الورقة لاتناقش ذلك- يبقى الخيط الناظم بين هذه الحركات الاحتجاجية، كونها تعبير عن وعي بالوجع الجمعي وشعور بالمظلومية والرفض، وعن اختلال سياسي او اقتصادي او اجتماعي او ثقافي، بالإضافة لكونها بعيدة عن أي تأطير أوتوجيه أو مظلة من أي منظمة معترف بها رسميا؛ كلها اختارت مسارا خاصا في احتجاجها، بعضها أبدع أشكال وتعبيرات وشعارات غاية في الإلتزام والمسؤولية والسلمية، والبعض الآخر ينحو منحى الشغب والفوضى والعنف اللفظي والمادي، والمواجهة المباشرة مع قوات حفظ الأمن. يفسر ذلك التغيّر الذي طال مفهوم ودور الدولة وبنية النظام السياسي، بالموازاة مع التغييرات العميقة التي مسّت المجتمع المغربي من خلال نشأة أجيال جديدة، مطالبها متأثرة بالبيئة الدولية وبالعولمة، تبحث عن حلول وأجوبة براغماتية وآنية، بعيدا عن الخطاب الرسمي والايديولوجي والشعبوي السائد، بفعل اعتماد آليات جديدة للتواصل (الانترنت – شبكات التواصل الاجتماعي)، ساهم في ذلك انحسار دور الاعلام الحزبي والرسمي، الذي كان يشكل الوعي والتصورات بحسب رغبات وإملاءات السلطة الحاكمة، يوازيه غياب شبه تام لمؤسسات التنشئة السياسية.
وبالتالي فإن هذا الصراع الذي أخرجت منه مؤسسات الوساطة، وأصبحت تلعب دور المتفرج ينحو منحى الاصطدام والاحتكام لشارع والفضاء العام، ومنطق الصراع والمواجهة وصراع الإرادات، دون التقيد بضوابط معينة؛ ليس في صالح، لا الدولة ولا الإطارات النقابية و الحزبية المدنية ولا المجتمع، كما ينبئ بسيناريوهات الشُّؤم؛ فالمواجهات والعنف المادي أو الرمزي ذو الخلفية السياسية والاجتماعية... ينخفض في الدول الديمقراطية وحتى الهجينة، نظرا لوجود هيئات وسيطة تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتضبط الصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي، أو على الأقل تقلل من حدته، بما يعنيه ذلك من ضرورة معالجة الأعطاب الموضوعية والذاتية لهذه الإطارات وتجديد خطابها، كتحدي مُلِح وراهني، وإلا فإن الذاكرة الاحتجاجية في العالم العربي لا زالت حيّة، كون الأحداث والاضطرابات الأكثر عنفا بين السلطة الحاكمة والجماهير، لازالت جاثمة في الأذهان وشبح عودتها في ظل الشروط الحالية ليست بالمستحيلة.