اتسمت العشر سنوات الأولى من حكم الملك محمد السادس على المستوى الداخلي بحراك سياسي واقتصادي وسوسيو ثقافي متسارع، لا يوازيه إلا الوتيرة المتلاحقة للأحداث على الصعيد الدولي والتي تأرجحت بين نقاط تحول محورية على مستوى السياسة الدولية بما يؤثر على إمكانية إعادة ترتيب النظام الدولي بما فيه المنطقة المغاربية وفق هذه المتغيرات الجديدة.
من هنا يصبح من المشروع أن تساءل منطقة الصحراء والمهتمين بها حصيلة العقد الأول من هذا الحكم ماذا تحقق لها من منجزات ومكاسب؟ ثم ما هي أبرز الأخطاء والانحرافات و التراجعات؟ وهل هناك مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي يؤسس بهذه المنطقة ام هي مجرد شعارات فقط؟
لن نكون متحاملين إذا ما أجبنا على هذا التساؤل بكون إقليم الصحراء يعتبر بمثابة المنطقة الرمادية في هذه العشرية الأولى من حكم الملك محمد السادس حيث اتسمت هذه المرحلة بالإنتظارية والتذبذب وعدم الوضوح في اتخاذ المواقف نحو العديد من القضايا المصيرية للسكان والاعتماد على سياسة رد الفعل بدل المبادرة، والحلول الترقيعية لتخفيف الاحتقانات بدل التدبير المتواتر للأزمات، والالتفاف بدلا من التخطيط المدروس على التكلفة الاجتماعية الباهظة التي ترتبت عن عقود متتالية من القمع والاستبداد وسيادة المقاربة الأمنية وتكميم الأفواه الحرة وانعدام المساءلة والمحاسبة، واستعراض القوة بانتهاج عمليات الاختطاف القسري والاعتقال التعسفي ناهيك على مختلف الانتهاكات الجسيمية لحقوق الإنسان والمجال الصحراويين، هي إذن سياسة المنطقة الرمادية المبنية على الضبابية وانعدام الوضوح حيث ظل النظام يشتغل بنفس آليات النظام السابق مع تغيير نوعية القفازات فقط.
وعلى الرغم من نقطة الأمل التي انتعشت لدى الساكنة مع مطلع ما اصطلح عليه بالعهد الجديد وخاصة مع صخب جوقة التبشيرين الذين رفعوا الخطابات مغرقة في التبشيرية من قبيل المصالحة التاريخية مع الصحراويين والقطيعة مع الأساليب السابقة باعتماد مفاهيم جديدة ومتجددة للسلطة إلا أن المؤشرات المستقاة من الواقع اليومي للساكنة تبين أن الأوضاع صارت كارثية وأكثر سوداوية من السابق.
وغير بعيد عن هذه الفئة التبشيرية نجد من يفترض فيهم أنهم يمثلون الإنتلجنسيا الصحراوية التي غيبت من طرف المخزن طيلة العهد السابق وغيبت هي نفسها في العهد الحالي عن النضال والمقاومة بدوافع عدة إلا أنني أوجزها في نقاط ثلاث هي: عدم الوعي بالذات، والإنتظارية ، ثم الانتهازية النفعية. ونفسر هذه العناصر الثلاث بما يلي:
العنصر الأول الوعي بالذات: لا تزال النخبة الصحراوية تراوح مطرحها وترفض المسؤولية التاريخية الملقاة على كواهلها باعتبارها حلقة أساسية من حلقات حل ملف قضية الصحراء، بل إنه في اعتقادي لن يستقيم أي حل سواء كان أمميا، أو سياسيا توافقيا، دون المرور عبر هذه الحلقة. في حين أنه لا يزال داخل هذه النخبة من يرتعش هلعا عندما يصنف ضمنها، بدواعي ضعف التكوين الأكاديمي أو قلة التجربة الميدانية وفي أحيان أخرى يرجع الأمور إلى سخافة الشواهد العليا المحصل عليها وكونها لا تمثل معيار الإنتماء للنخبة الصحراوية المثقفة. وهي أمور قد نتفق معها أو نختلف و لكن هذا ما جادت به الأقدار نخبة صحراوية مثقفة قد تكون عديمة الإنتاج ومتوقفة عن التفكير ولكن هذا لن يعفيها من كونها نخبة هذا المجتمع وعليها أن تعي أن التنوير والتغيير والإصلاح والحل لن يمر إلا عبرها
أما العنصر الثاني المتمثل في الإنتظارية فهي صبغة طبعت هذه النخبة وجعلتها مقيدة بمشاكلها الذاتية وبعيدة عن قضايا المجتمع في نوع من اللامبالاة تاركة إياه يواجه تحديات مختلفة كالعولمة وسهولة التواصل وانفتاح فضاء الاتصالات بشكل صار يفقد معه هذا المجتمع الكثير من مقومات تماسكه ليصبح الحديث عن الهوية الصحراوية في لاحق الأيام كمن يتطلع لرؤية الهلال في السماء؛ وهذه الإنتظارية القاتلة لمجيء الحل من النظام أو من الخارج ستدخل المجتمع الصحراوي في غرفة الإنعاش ويصير ورشا كبيرا وأرضا خصبة لمعاول الإصلاح التي قد تاتي او لا تاتي علما ان الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم،
وأما العنصر الأخير المتمثل في صفة الانتهازية والنفعية فقد اكتسبتها هذه النخبة مع بداية العهد الجديد فبدلا من إتخاذها مواقف واضحة من مجمل القضايا المصيرية التي تهم الصحراء وساكنيها نجدها تتلون بشكل حربائي ووصولي فهي مع النظام إذا كانت ستتبوأ فيه أعلى المناصب وقد تكون مع خيار الاستقلال إذا ما أحست بميلان الكفة نحو الطرف الآخر وأفضل ما يحقق لها هذه المعادلة هو التعاطي مع أطوار القضية من موقع الصامت المتفرج في انتظار الإصطفاف خلف من تحققت له الغلبة.
وفي اعتقادي أن المؤمل من الإنتيليجنسيا الصحراوية في هذه المرحلة هو أن تتحول إلى حركة مقاومة ووطنية حقيقية توجه نضالها نحو اكتساب مزيد من الديمقراطية وتوسيع هامش الحقوق والحريات وترسيخ ثقافة المؤسسات و الرقابة على توزيع الثروات بما يتصدى للمعضلات الاجتماعية وحل إشكالات التنمية وبإسهامها هذا سترقى بالساكنة إلى مستوى النضج الحقيقي الذي سيتأتى لها من خلاله المساهمة بكل مسؤولية وتجرد من مختلف النزعات قبلية كانت أو سياسية أو مذهبية في أية استشارة مصيرية قد تقبل عليها المنطقة. ولتؤسس لوعي ديمقراطي يرفض الاستبداد والطغيان تحت كل المسميات سواء كانت باسم الثورة أو باسم الوحدة،
ولعل مجمل ما سلف ليشرعن لنا البحث عن إجابة لتساؤل حقيقي مفاده كيف نخرج من المنطقة الرمادية؟
على الرغم من التركة التي ورثها العهد الجديد عن النظام السابق إلا أن إرادة المؤسسة الملكية أبانت منذ البداية عن تعاط مختلف مع إقليم الصحراء تجلى في الاعتراف الراقي بحق الصحراويين في تقرير مصيرهم واعتبار الحكم الذاتي آلية ديموقراطية تستجيب لهذا الحق وإن كان هذا الطرح يصطدم بجدار دستوري يقتضي التعديل بما يتناسب مع هذه الآلية الحداثية أقل ما يكون فيه أن يسود الملك و لا يحكم. أما على مستوى الإدارة الداخلية للإقليم فقد تقدم النظام بمشروع متكامل لم يواكب للأسف بالتنفيذ والتتبع من طرف الحكومات المتعاقبة حيث يتأسس هذا التصور على مقاربة هرمية برأس سياسي يمثله المجلس الاستشاري للشؤون الصحراوية وقاعدته أحد رؤوسها اقتصادي اجتماعي ممثلا في وكالة الجنوب والآخر إعلامي تجسده تلفزة العيون الجهوية. ولعل القاسم المشترك الذي يجمع بين هذه المؤسسات هو كونها تشتغل بمنطق المنطقة الرمادية الشيء الذي حكم عليها ومنذ البداية بالفشل الذريع. فلم يحقق الكوركاس المهمة المنوطة به والمتمثلة أساسا في ان يكون قوة اقتراحية وآلية استشارية يفترض فيها ان تحمل قضايا وانتظارات الساكنة إلى الملك مباشرة ودون أية وسائط، في ظل محدودية هامش التحرك لدى الحكومة والبرلمان، وبعدما أثبتت السياسات الخاطئة السابقة فشلها حيث كانت تبنى على تقارير مغلوطة تكتب في المنازل وتبعث الى المركز وكل ما بدخلها محض افتراء وتلفيق مجاني للتهم، ولكن بدل من أن يلعب الكوركاس هذا الدور الحساس في تقريب الوقع الصحراوي من المركز لبناء سياسات حقيقية تلامس احتياجات الساكنة، فقد تم اختزال دور هذه المؤسسة لتصبح مجرد بوق دعاية من النوع الرخيص على متن سيارة من نوع أردأ. بيد أن اختيار شخصية الرئيس وإن كان فيه بعض الصواب باعتبار هذا الأخير أحد أبرز القيادات الصحراوية التاريخية التي واكبت الملف منذ اندلاع النزاع، إلا إن هذا لا يبرر إحراقه بهذا الشكل المبتذل، لأن اختزال قدراته في هذا المنصب لبروتوكولي سيكون له ما له من تبعات.
أما في الشق الاقتصادي والاجتماعي الذي تكفلت به وكالة الجنوب، فقد رفعت هذه الأخيرة سقف الإنتظارات بالإعلان عن إقامة مشاريع كبرى تجعل من هذه المناطق قطبا اقتصاديا مهما،الشيء الذي أنعش آمال الساكنة في القضاء على اقتصاد الريع والانتقال بالمنطقة إلى فضاء للإنتاج والتصدير. إلا أن هذه التوقعات ستصدم بواقع حقيقي جسده عجز هذه المؤسسة. والذي عمق من هذا العجز هو لوبيات الفساد التي تستفيد من النزاع في المنطقة. وهكذا ستنخرط وكالة الجنوب بدورها – عن وعي أو غير وعي- في ثقافة الريع، فلا هي أنعشت فضاء المقاولات ولا هي قلصت من نسبة البطالة وبإطلالة بسيطة على ميزانية التسيير وعلى الصفقات المبرمة من طرفها يتبين بوضوح تفشي إخطبوط الريع داخل أروقة هذه المؤسسة.
في حين تظل شخصية المدير العام التي تجر خلفها ملفا ثقيلا بالاتهام بالاختلاسات من مؤسسة عمومية موضوع أمام القضاء،و الذي لم يعرف مآله إلى غاية كتابة هذه السطور، تزيد من التشكيك في إمكانية قيامه بمهام التنمية الصعبة بهذه المنطقة.
وفي اعتقادي أن الاستمرار باعتبار الصحراء منطقة عقاب لمختلف المسئولين من مختلف القطاعات وخاصة القضاء والأمن والصحة والاقتصاد يتنافى تماما مع المقترح الديمقراطي الذي تزمع الدولة تقديمه لهذه المنطقة والذي يحتاج إلى اطر أكفاء وليس إطارات معاقبة.
أما الرأس الثالث للهرم المتجلي في تلفزة العيون الجهوية فيمكننا القول بأنها اعتبرت في حينها تجربة رائدة في الإعلام الجهوي بحيث حاولت بحق انتهاج سياسة القرب وأن تكون انعكاسا حقيقيا لواقع وقضايا الإقليم، إلا أنها بدورها لم تسلم من القفازات الحريرية التي قيدت خطها التحريري حتى تاهت ملامحه. وأصبحت مجرد نسخة مشوهة عن القناة الأولى بالاقتصار على تغطيتها لتحركات رئاسة الكوركاس من جهة والمراسيم الرسمية لمسؤولي الأقاليم وأنشطتهم اليومية، مع إذاعة بعض الأغاني الفلكلورية و المعادة والمستوردة في مجملها .مما أفقدها بريقها السابق وضيق من رقعة مشاهديها.
في حين يبقى تعيين إطار صحراوي على هذه المؤسسة يعبر في ذاته عن مرونة المخزن الجديد في هذا الإتجاه، ولكن بقاء يداه مغلولتان وعدم افتتاح فرع جهوي للهاكا في المنطقة، سيوقعه لا محالة في الخطأ.و لربما تتعرض المؤسسة التي يرأسها بدورها لاختراقات من طرف لوبيات الفساد والإفساد وهو أمر غير مستبعد في غياب تفعيل آليات الرقابة والمحاسبة.
انطلاقا من النقطة السابقة سيقودنا التحليل الذي نحن بصدده الى الحديث عن مؤسسات الوساطة والرقابة التي أنشأتها الدولة لمراقبة وضعية الحقوق والحريات وللوقوف في طريق تبذير وتبديد الأموال العمومية المرصودة للتنمية في الصحراء، حيث صارت مؤسسات من قبيل المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان وديوان المظالم والمجلس الأعلى للحسابات بالعيون مجرد ملحقات غير رسمية للإدارة الترابية وللأجهزة الإستخبارية مما أفرغها من محتواها وافقدها المصداقية والشفافية والحياد المنشود فيها للقيام بالأدوار التي من المفترض أن تقوم به.
من هنا نستشف في بعض الخلاصات التي قد تخرج بها هذه القراءة السريعة لواقع الإقليم، أن ما تستدعيه الاوضاع المتفاقمة من الجميع هو التوقف مليا أمام هذه الانحرافات التي طالت المشهد السياسي و السوسيو ثقافي ثم الإعلامي بالصحراء. وعليه يتوجب على إرادات الإصلاح الحقيقية أن تستحضر هذه الانحرافات في كل مشروع مستقبلي تقدم عليه الدولة. ولعل الاستشارة التي أعلن عنها سابقا حول الجهوية والتي ستمر عبر لجنة استشارية تقتضي إشراك الكفاءات الصحراوية في النقاش الوطني الواسع والبناء حول صياغة التصور المتكامل للنموذج مغربي-مغربي للجهوية، النابع من واقع بلادنا وخصوصياتها، الذي دعا له عاهل البلاد لإنضاج هذا التصور وبالتعبئة الرامية إلى تبنيه الجماعي، على اعتبار الوضع المتقدم لجهة الصحراء على بقية الجهات بالنظر إلى خصوصيتها التاريخية.
ومن هنا أيضا يقتضي الانخراط في هذا المسار التفكير جديا في مسألة التعديل الدستوري والتهييء المبكر للكوادر الصحراوية و تأهيلها لحسن تدبير الشأن الجهوي من خلال ترشيحها للإستوزار،كما يجب أن يشمل هذا الإعداد باقي القطاعات كالإدارة الترابية والمؤسسات المالية والأجهزة القضائية والأمنية وغيرها إذ ذاك يمكن أن نقول أننا ان هناك انفتاح حقيقي على الصحراويين من اجل مصالحة تاريخية حقيقية تتجاوز ارث الماضي وتعبر بالصحراء من المنطقة الرمادية إلى منطقة واضحة ومحددة المعالم.